فصل: باب الإمَامَة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ باب الإمَامَة

 سُئِلَ ـ رَحمه الله ـ عن الإمامة‏:‏ هل فعلها أفضل، أم تركها‏؟‏

فأجاب‏:‏

بل يصلي بهم، وله أجر بذلك‏.‏ كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة‏:‏ رجل أم قوما وهم له راضون‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏ الحديث‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجلين‏:‏ أحدهما حافظ للقرآن، وهو واعظ، يحضر الدف والش

بابة، والآخر عالم متورع‏.‏ فأيهما أولي بالإمامة‏؟‏

فأجاب‏:‏

ثبت في صحيح مسلم عن أبي مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله، فإن كانوا / في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سناً‏)‏‏.‏

فـإذا كـان الرجـلان مـن أهـل الديانة، فأيهما كان أعلم بالكتاب والسنة وجب تقديمه على الآخر متعيناً‏.‏ فإن كان أحدهما فاجرًا مثل أن يكون معروفا بالكذب، والخيانة، ونحو ذلك مـن أسـباب الفسوق، والآخـر مؤمناً مـن أهـل التقوي، فهذا الثاني أولي بالإمامة، إذا كان من أهلها، وإن كان الأول أقرأ وأعلم، فإن الصلاة خلف الفاسق منهي عنها نهي تحريم عند بعض العلماء، ونهي تنزيه عند بعضهم‏.‏ وقد جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏لا يؤُمَّنَّ فاجر مؤمناً، إلا أن يقهره بسوط أو عصا‏)‏‏.‏ ولا يجوز تولية الفاسق مع إمكان تولية البر‏.‏ والله أعلم‏.‏

/وَقَالَ شيخ الإِسلام‏:‏

 فصل

وأما الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع، وخلف أهل الفجور، ففيه نزاع مشهور، وتفصيل ليس هذا موضع بسطه‏:‏

لكن أوسط الأقوال في هؤلاء‏:‏ أن تقديم الواحد من هؤلاء في الإمامة لا يجوز مع القدرة على غيره‏.‏ فإن من كان مظهراً للفجور أو البدع يجب الإنكار عليه ونهيه عن ذلك، وأقل مراتب الإنكار هجره لينتهي عن فجوره وبدعته؛ ولهذا فرق جمهور الأئمة بين الداعية وغير الداعية، فإن الداعية أظهر المنكر فاستحق الإنكار عليه، بخلاف الساكت، فإنه بمنزلة من أسر بالذنب، فهذا لا ينكر عليه في الظاهر، فإن الخطيئة إذا خفيت، لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت، فلم تنكر، ضرت العامة؛ ولهذا كان المنافقون تقبل منهم علانيتهم، وتوكل سرائرهم إلى الله تعالي، بخلاف من أظهر الكفر‏.‏

/فإذا كان داعية منع من ولايته وإمامته وشهادته وروايته، لما في ذلك من النهي عن المنكر، لا لأجل فساد الصلاة أو اتهامه في شهادته وروايته، فإذا أمكن لإنسان ألا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة، وجب ذلك‏.‏ لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان هو لا يتمكن من صرفه إلا بشر أعظم ضررا من ضرر ما أظهره من المنكر، فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان‏.‏ ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً‏.‏

فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته، لم يجز ذلك، بل يصلي خلفه ما لا يمكنه فعلها إلا خلفه، كالجمع، والأعياد، والجماعة‏.‏ إذا لم يكن هناك إمام غيره، ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج، والمختار بن أبي عبيد الثقفي، وغيرهما الجمعة والجماعة، فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فساداً من الاقتداء فيهما بإمام فاجر، لاسيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره، فيبقي ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة‏.‏ ولهذا كان التاركون للجمعة والجماعات خلف أئمة الجور مطلقاً معدودين عند / السلف، والأئمة من أهل البدع‏.‏

وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر، فهو أولي من فعلها خلف الفاجر‏.‏ وحينئذ، فإذا صلي خلف الفاجر من غير عذر، فهو موضع اجتهاد للعلماء‏.‏

منهم من قال‏:‏ إنه يعيد لأنه فعل ما لا يشرع، بحيث ترك ما يجب عليه من الإنكار بصلاته خلف هذا، فكانت صلاته خلفه منهياً عنها فيعيدها‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ لا يعيد‏.‏ قال‏:‏ لأن الصلاة في نفسها صحيحة، وما ذكر من ترك الإنكار هو أمر منفصل عن الصلاة، وهو يشبه البيع بعد نداء الجمعة‏.‏

وأما إذا لم يمكنه الصلاة إلا خلفه كالجمعة، فهنا لا تعاد الصلاة، وإعادتها من فعل أهل البدع، وقد ظن طائفة من الفقهاء أنه إذا قيل‏:‏ إن الصلاة خلف الفاسق لا تصح، أعيدت الجمعة خلفه، وإلا لم تعد، وليس كذلك‏.‏ بل النزاع في الإعادة حيث ينهي الرجل عن الصلاة‏.‏ فأما إذا أمر بالصلاة خلفه، فالصحيح هنا أنه لا إعادة عليه، لما تقدم من أن العبد لم يؤمر بالصلاة مرتين‏.‏

/وأما الصلاة خلف من يكفر ببدعته من أهل الأهواء، فهناك قد تنازعوا في نفس صلاة الجمعة خلفه‏.‏ ومن قال‏:‏ إنه يكفر أمر بالإعادة؛ لأنها صلاة خلف كافر، لكن هذه المسألة متعلقة بتكفير أهل الأهواء، والناس مضطربون في هذه المسألة‏.‏ وقد حكي عن مالك فيها روايتان وعن الشافعي فيها قولان‏.‏ وعن الإمام أحمد ـ أيضاً ـ فيها روايتان، وكذلك أهل الكلام فذكروا للأشعري فيها قولان‏.‏ وغالب مذاهب الأئمة فيها تفصيل‏.‏

وحقيقة الأمر في ذلك‏:‏ أن القول قد يكون كفراً، فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها‏.‏

وهذا كما في نصوص الوعيد فإن الله ـ سبحانه وتعالي ـ يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار لجواز ألا يلحقه الوعيد لفوات شرط، أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يبتلي بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع‏.‏

/وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنـده ولم تثبت عنده،أو لم يتمكن من فهمها،وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه ـ كائنا ما كان ـ سواء كان في المسائل النظرية، أو العملية‏.‏ هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجماهير أئمة الإسلام ،وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها‏.‏

فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول، وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع، فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة، ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة الإسلام‏.‏ وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض، فإنه يقال لمن فرق بين النوعين‏:‏ ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها‏؟‏ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع‏؟‏ فإن قال‏:‏ مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل، قيل له‏:‏ فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وسلم هل رأي ربه أم لا‏؟‏ وفي أن عثمان أفضل من علي، أم على أفضل‏؟‏ وفي كثير من معاني القرآن، وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الاعتقادية العلمية، ولا كفر فيها بالاتفاق‏.‏ / ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية، والمنكر لها يكفر بالاتفاق‏.‏

وإن قال الأصول‏:‏ هي المسائل القطعية، قيل له‏:‏ كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية، هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم، وتيقن مراده منه‏.‏ وعند رجل لا تكون ظنية، فضلا عن أن تكون قطعية لعدم بلوغ النص إياه، أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته‏.‏

وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الذي قال لأهله‏:‏ ‏(‏إذا أنا مت، فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله على ليعذبني الله عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين‏.‏ فأمر الله البر برد ما أخذ منه، والبحر برد ما أخذ منه، وقال‏:‏ ما حملك على ما صنعت‏؟‏ قال‏:‏ خشيتك يا رب، فغفر الله له‏)‏‏.‏ فهذا شك في قدرة الله وفي المعاد، بل ظن أنه لا يعود، وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، وغفر الله له‏.‏ وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏

/ولكن المقصود هنا أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والعين، ولهذا حكي طائفة عنهم الخلاف في ذلك، ولم يفهموا غور قولهم‏.‏ فطائفة تحكي عن أحمد في تكفير أهل البدع روايتين مطلقاً، حتى تجعل الخلاف في تكفير المرجئة والشيعة المفضلة لعلي‏.‏ وربما رجحت التكفير والتخليد في النار، وليس هذا مذهب أحمد، ولا غيره من أئمة الإسلام، بل لا يختلف قوله أنه لا يكفر المرجئة الذين يقولون‏:‏ الإيمان قول بلا عمل، ولا يكفر من يفضل عليا على عثمان، بل نصوصه صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم‏.‏ وإنما كان يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته؛ لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرة بينة‏.‏ ولأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق، وكان قد ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم، وأنه يدور على التعطيل، وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة‏.‏

لكن ما كان يكفر أعيانهم، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط، والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه‏.‏ ومع هذا، فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية‏:‏ أن القرآن مخلوق، وأن الله لا يري في الآخرة، وغير ذلك‏.‏ ويدعون الناس إلى ذلك،/ ويمتحنونهم، ويعاقبونهم، إذا لم يجيبوهم، ويكفرون من لم يجبهم‏.‏ حتى أنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير، لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية‏:‏ إن القرآن مخلوق، وغير ذلك‏.‏ ولا يولون متولياً ولا يعطون رزقاً من بيت المال إلا لمن يقول ذلك‏.‏ ومع هذا، فالإمام أحمد ـ رحمه الله تعالي ـ ترحم عليهم، واستغفر لهم، لعلمه بأنهم لم يبن لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال لهم ذلك‏.‏

وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد ـ حين قال‏:‏ القرآن مخلوق ـ كفرت باللَّه العظيم، بين له أن هذا القول كفر، ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك؛ لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد، لسعي في قتله، وقد صرح في كتبه بقبول شهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم‏.‏

وكذلك قال مالك ـ رحمه الله ـ والشافعي، وأحمد، في القدري‏:‏ إن جحد علم الله كفر‏.‏ ولفظ بعضهم‏:‏ ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خُصِمُوا، وإن جحدوه كفروا‏.‏

وسئل أحمد عن القدري‏:‏ هل يكفر‏؟‏ فقال‏:‏ إن جحد العلم، كفر‏.‏ وحينئذ، فجاحد العلم هو من جنس الجهمية‏.‏ وأما قتل الداعية إلى / البدع فقد يقتل لكف ضرره عن الناس، كما يقتل المحارب‏.‏ وإن لم يكن في نفس الأمر كافراً، فليس كل من أمر بقتله يكون قتله لردته‏.‏ وعلي هذا قتل غَيلان القدري وغيره قد يكون على هذا الوجه‏.‏ وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع وإنما نبهنا عليها تنبيهاً‏.‏

 فصل

وأما من لا يقيم قراءة الفاتحة، فلا يصلي خلفه إلا من هو مثله فلا يصلي خلف الألثغ الذي يبدل حرفاً بحرف، إلا حرف الضاد إذا أخرجه من طرف الفم كما هو عادة كثير من الناس، فهذا فيه وجهان‏:‏

منهم من قال‏:‏ لا يصلي خلفه، ولا تصح صلاته في نفسه؛ لأنه أبدل حرفا بحرف؛ لأن مخرج الضاد الشدق، ومخرج الظاء طرف الأسنان‏.‏ فإذا قال‏:‏ ‏[‏ولا الظالين‏]‏، كان معناه ظل يفعل كذا‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ تصح، وهذا أقرب؛ لأن الحرفين في السمع شيء واحد، وحس أحدهما من جنس حس الآخر لتشابه المخرجين‏.‏ والقارئ إنما يقصد الضلال المخالف للهدي، وهو الذي يفهمه المستمع، فأما المعني المأخوذ من ظل، فلا يخطر ببال أحد، وهذا بخلاف الحرفين / المختلفين صوتاً ومخرجاً وسمعاً، كإبدال الراء بالغين، فإن هذا لا يحصل به مقصود القراءة‏.‏